عيد بأيّة حال عدت يا عيد

انقضى شهر رمضان , وانتهت بانقضائه رحلة نفسيّة ممتعة , شفت فيها الروح , وأشرق الوجدان و ورقت العاطفة , وصفا الضمير .

   عاش المسلم شهرا كاملا ضيفا على رب العزة , جائلا في عالم روحي محلِّق ,  مترفّعاً عن ضروريات المادة وقيودات الجسد ورتابة الحياة , مروضا ذاته على التحلي بآثار الصوم الخلقية والاجتماعية , معمقا في نفسه قوة الإرادة , وجذور الصبر , وطاقة الاحتمال .

   ثم لاح هلال العيد يعلن انتصار الجسد في معركته مع شهواته , ويأذن بالاحتفال الرسمي العام لتأخذ النفس حظها المشروع من مطالبها المادية , ولتنطلق من قيود الصوم الروحية بعد أن هذبتها , وكبحت من غلوائها , وكسرت من حدة شهواتها , وعدللت اتجاهها , وضبطت قوة اندفاعها .

   لاح هذا القبس النورني يضيء بشعاعه الخافت زوايا القلوب , ويشيع في النفس قوة الإيمان وحرارة اليقين , وينشر ألوية المحبة والإخاء والآلفة  في أروقة المجتمع .

       لقد أقبل العيد وفي إقباله بشائر الحب , ونبل العاطفة , وسمو الإحساس , وصفاء القلوب , وفي أعطافه معاني الرحمة يزرعها في قلوب الأخوة الصادقة بعد أن اقتلع شهر رمضان ما نبت على ضفافها من الحشائش الضارة الخبيثة , وطهر التربة من الطفليات الدنيئة .

     إنه ليس عيدا ينتظم أياما مجردة يطويها الزمن في فلكه كما يطوي بقية الأيام . إنه معنى سام ينطوي على دلالات وجدانية عالية , ومشاعر جماعية نبيلة . إنه رمز للترابط الأخوي يصل الجماعة الواحدة بصلات المحبة , ويوثق بينها بأواصر المودة . وإنه مجال رحب , تلتقي على صعيده القلوب المتنافرة , وتلتئم بنفحته الأجزاء المتناثرة , وتعيد سماحته الانسجام والتمسك لما انفرط من كيانها وما تضعضع من ثقتها .

  وما الفرح الذي يغمر النفوس , والبشاشة التي تطفو على الوجوه , إلا التعبير الصادق عن فعل العيد , والأثر الواضح لما يعتمل في النفوس من إشراقة الوجدان , ونقاء السريرة , وما الشد على الأيدي بالمصافحة إلا الشد على الميثاق الأخوي , والعهد بحفظه قويا كقوة ضغط المصافحة , مشرقا كإشراقة الابتسامات على الشفاه .

     هذه هي المعاني الجليلة التي يجب أن نستشعرها ونحن في العيد تعمنا فرحته , وتؤنسنا مباهجه , وهي التي يجب أن نعيشها ونتفاعل معها ليكون للعيد رونقه وحكمته , وتتحقق آثاره وفضائله .

    إن الأعياد الإسلامية و لم تشرع للشكليات التي يمكن للناس أن يضفوها على أنفسهم في أي يوم عادي , وما كان لها من تكريم وتعظيم لو اقتصر أثرها على الصخب الصبياني , وعرض الأزياء الجديدة , وانطلاق النفس إلى أبعد حدود الانطلاق لتشبع نهم شهواتها , وتطفئ حماة غريزتها .

   إن للمناسبات حقا ينبغي أن تعطاه , ومعاني يجب أن تتمثل فيها , ونحن المحتفلين بالعيد المسؤولون عن خلق هذه المعاني والوفاء بهذا الحق , وتقصيرنا في ذلك تجريد للعيد من حقائقه , وسلب له من خصائص تلابسه وتلازمه .

   , وتوقظ في ضمائرنا مشاعر التعاطف , وتلفت أنظارنا إلى من خلفتهم ظروف الزمن القاسية عن اكتساب الما والأخذ بحظوظ الدنيا , فلم يتهيأ لهم لذيذ العيش في العيد , ولا لبس الجديد يدخل السرور على قلوب أطفالهم

   والتفاتنا إلى الطبفات الفقيرة من ذوي القربي والبعدى لتتسم على شفاهم البسمة التي ضنت بها الحياة عليهم , ولندخل السرور إلى نوسهم التي حرمت متعة العيد , وهو التطبيق العملي للعيد , وهو التجسيم لآثاره المباركة الطيبة ,وهو الاحتفال الحقيقي الذي يضفي على العيد بهاءه , ويكسوه حلة الفضل التي تجعله أنيقا نظيفا بهيجا في مظهره ومعناه وسريرته .

   والاهتمام بخاصة النفس  , وبالمحيط الضيق الذي ينتظم أسرة الشخص فقط , ليس تجريدا للعيد من روحه فحسب , بل هو تجريد للروح الإنسانية التي تأبى أن يتنعم فرد بشهي الطعام و وجاره جائع ضامر البطن لا يجد كسرة الخبز و او يرفل في حلل السعادة والزينة , واخوة تكسوه أسمل بالية لا تكاد تسترجسمه .

   والشعور بوحدة الجماعة في العيد , يثير في نفوسنا أشجانا , وينقض جروحا , ويحرك أحزانا , ويتجاوز بنا مجالنا الإقليمي الضيق إلى الدائرة الواسعة التي تجمع داخل إطارها الأمة العربية بأسرها .

   يثير فينا الحسرة على الفتنة النائمة التي استيقضت , والأسى على العقد الذي انفرطت حباته , والألم على الكيان الذي تصدع بنيانه.

   يثير فينا ذكرى فلسطين الجريحة : ضحية الخيانة والغدر , وذكرى الهياكل العظمية الآدية المشردة المحطمة التي قضى عليها منطق البغي والظلم أن تكون فريسة تتقاسمها وحوش المرض والجوع والعرى , وياكلها البؤس والشقاءوالتعاسة و وذكرى اليوم الأسود الحدث الحالك المشؤوم الذي نبتت فيه إسرائيل حربة مسمومة , وشوكةحادة في جسم الأمة العربية .

  لقد دار الفلك دورته , وعاد العيد كما يعود في موعده الثابت كل سنة ,ونسأله سؤال المتنبي :

       عيدٌ بأيّة حال عدت يا عيد           بما مضى أم بأمر فيك تجديد 

  عاد بما مضى من المآسي , وبما مضى من أساليب انتهاك الكرامة الإنسانية , والحرمات البشرية , ولم يات بجديد يحمل في طياته بشائر الأمن , ويرفرف بأجنحة السلام وحمائم الأمان , لم يأت بجديد يعيد للضمير الإنساني يقظته , ويحرك شعور النخوة  الإنسانية الذي أصابه الجمود . 

     لنكه أتى بجديد فعلا , ولكن اي جديد ؟ جديد في ابتكار انواع الأسلح الفتاكة , وتحسين وسائل التدمير والتخريب , وسياسة حافة الحرب التي تشيع الرعب والفزع , وتجعل العالم على فوهة بركان , قد ينفجر في أي لحظة .

   إن الأعياد مهما اختلفت صورها , وتباينت تقاليدها , وتنوعت شعوبها , تنطوى على معاني الحب والأمن والسلام , وهو ليس السلام الاجوف الذي اتخذ منه المتسابقون في حلبات الصراع الدولي وسيلة للدعاية الكاذبة , ومادة لتخذير الأعصاب المضطربة , واسلوبا لخداع النفوس , وذر الرماد في العيون .

    إنا نستقبل هذا العيد , وفي شفاهنا ابتهال , وفي قلوبنا ضراعة , وفي جوانحنا أمل , أن يعيد العيد للصفوف العربية تماسكها , ويقضي على الفتنة التي تهددها , وأن يرشده قادة الشعوب إلى ما فيه صلاح العالم وخير الإنسان .

   وكل عاو وأنتم بخير .