من حصاد العمر

(من حصاد العمر)

يضيفُ فضيلةُ الشيخ والعلامة الجليل الأستاذ عبداللطيف أحمد الشويرف إلى المكتبة الثقافية إصداراً وكتاباً جديداً يوثق لبعض أعماله ونشاطاته الخيّرة التي تنقل إلينا فيضاً من فيوض سيرته العطرة وعطاءاته المهنية والإبداعية الجادة التي توفر لهذا الجيل الكثير من الخبرات والدروس للتعلم من تجاربه المتنوعة كقامة أدبية وإذاعية ودينية ودبلوماسية وصحفية ساهمت خلال العقود الماضية بالكثير من الأعمال التي لازالت عبقاتها حيةً وقادة، وستظل، في دنيا الفكر والأدب والثقافة والإعلام.

فالأستاذ عبداللطيف الشويرف هو نموذج للإنسان المثابر الذي أوقف حياته وأخلصها للعلم الذي استهل تلقيه في كتاب الشيخ مختار حورية بالمدينة القديمة والمدارس القرآنية والدينية والحكومية الليبية بطرابلس، فتتلمذ ودرس علوم الدين والفقه والأحكام واللغة والبلاغة على أيدي المشايخ الطرابلسيين، بمعنى أنه ليس بأزهري ولا زيتوني ولا قيرواني، بل تلقى كل علومه الغزيرة بمسقط رأسه في مدينة طرابلس، على شيوخ وأساتذة أجلاء أفاضل، وهو بذلك أثبت لمجايليه والأجيال التي تليهم أن الجد والرغبة والحرص والإرادة والعزيمة هم أساس بناء الإنسان وليس المكان أو الزمن الذي يحل فيه.

(من حصاد العمر) هكذا جاء العنوان الرئيسي للكتاب الصادر حديثاً عن دار الرواد للأستاذ الفاضل عبداللطيف الشويرف والفرعي (أبحاث ومقالات وكلمات في موضوعات مختلفة) والذي عرّفه في مقدمة قصيرة يصفه فيها بأنه (.. يشمل كتاباتي غير الصحفية، جمعتُ ما بقي لي منها وكان صالحاً للنشر، وقدمتُ في هذا الكتاب تحت عنوان “من حصاد العمر، أبحاث ومقالات وكلمات في موضوعات مختلفة”، وهي مجموعة من كتابات مطولة تتمثل في أبحاث ومقدمات لأربعة كتب لغيري، وكلمات تتفاوت في طولها وأغراضها، وترتبط بمناسبات أدت إليها، وأحداث تؤرخ لها.)

ويضيف أستاذنا الجليل (.. ومن بين ما يتضمنه الكتاب كلماتي التي ألقيتها بمناسبة تكريمي من جهات رسمية، ركزتُ فيها على انطباعاتي الخاصة وما يدل عليه التكريم بصورة عامة من قيم أخلاقية، وما يرمز إليه من معانٍ إنسانية، ويمثله من سنة حميدة لها تأثيرها الإيجابي الحسن في التواصل الاجتماعي والأدبي بين أجيال الوطن المتعاقبة، وما يقدمه من نماذج أعطت في سنوات القحط، وضحت في الظروف الصعبة بكل أنواع التضحية من أجل خدمة أهلها ورقي بلادها، واستحقت بجدارة أن تكون أسوة حسنة ومثلاً يحتذى للأبناء والأحفاد).

وبكل ما يحتويه هذا الكتاب الأنيق الذي جاء في مائتين وستين صفحة من دراسات ومقالات بحثية وتوثيقية، وذكريات شخصية، وشعر وصور ومعلومات وفيرة زاخرة بالمعرفة الغناء، فإن خاتمته كانت الأكثر إمتاعاً وأهميةً وجرأةً في قول الحق والتوجيه القويم لأصحاب السلطة واتخاذ القرار المتأسس على التعاليم الإسلامية السمحاء، لأنها -الخاتمة- كشفت عن خطابين مهمين مرسلين وموجهين إلى معمر القذافي رئيس مجلس قيادة الثورة في ذاك الوقت، كتبهما وحررهما الأستاذ عبداللطيف الشويرف إبأن عمله بجميعة الدعوة الإسلامية وذيلهما المرحوم الشيخ محمود صبحي أمين الجمعية آنذاك بتوقيعه.

ويتعلق الخطاب الأول بالرأي الديني فيما أورده معمر القذافي من فتوى واجتهاد غير صائب في موضوع مشروعية بعض أنواع الربا في الاسلام حين أثاره بإحدى خطب العيد انطلاقاً من تفسيره للآية الكريمة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ومما ورد في تلك الرسالة الرسمية المخاطبة للقذافي والموجهة إليه بلغة كتبها الأستاذ الشويرف قائلاً (.. فليس من حقكم أن تفسروا آية بغير ما فسرها به العلماء الثقات … وكان من الأفضل أن تأخذوا في مسألة الربا والمصارف رأي هذه اللجنة العليا التي كلفتوها مراجعة التشريعات القائمة على ضوء الشريعة الإسلامية، فهي المتخصصة في الموضوع، وهي المسؤولة أمام الله ثم أمام الشعب عن كل حكم تبديه، أما تسرعكم في تفسير الربا بالرأي المخالف الذي أبديتموه في خطبة العيد، فأمر كنا نود ألا يحدث وألا يصدر من أمثالكم ..)

وورد في خاتمة ذاك الخطاب الحكومي الرسمي (.. بقيت نقطةٌ أخيرةٌ أحبُّ أن أتناولها بالتعليق، وهي قولكم في خطبة العيد ما معناه: “إنْ كان الإقراض من المصارف بفائدة حراماً مطلقاً، فإن المواطن المقترض لا يتحمل هذا الحرام، وإنما يتحمله المسؤول ولي الأمر”. وهذا الحكم غير صحيح، فالشرع يعلق حرمة الربا برقبة كل المشاركين فيه والمشوهين برجسه..).

أما الخطاب الثاني فقد كان بخصوص قرار العقيد القذافي إلغاء العمل بالتأريخ الهجري واستبداله بما سماه وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد كتب الأستاذ عبداللطيف الشويرف هذا الخطاب الموجه لرئيس مجلس قيادة الثورة معمر القذافي كالتالي (.. إن التغيير الذي أقدمتم عليه لا يجوز ولا يصح لعدة أسباب) وقد عددت رسالة الشيخ الجليل عشرة أسباب منها (هذا الإجماع على التأريخ الهجري من أبرز العلامات على وحدة الأمة الإسلامية واستقلال شخصيتها، ومن مواطن الإلتقاء الباقية التي لم تشذ عنها حتى الطوائف الزائغة، وعلى ذلك فإن الخروج عن التاريخ الهجري خروج عن إجماع الأمة الإسلامية، وإحداث ثغرة خطيرة في أساس متين لم توهنه أحداث التاريخ، ولم تؤثر فيه النزاعات والخصومات على شدتها وقوة وقعها على الكيان الإسلامي).

وكذلك (إن التأريخ بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم – فضلاً عن كونه خرقاً خطيراً لإجماع الأمة الإسلامية على التأريخ بالهجرة – لا يصلح أن يتخذ تاريخاً لا بالعقل ولا بالذوق..) وأيضاً (الإدعاء بأن التأريخ بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يرغّبُ غير المسلمين ويجيبهم إليه، لا يستند إلى دليل من منطق أو واقع..). وتتسأل الرسالة في خاتمتها (ما الثمرات التي نجنيها من وراء تغيير التأريخ الهجري وإلغائه؟ لماذا نفتح على أنفسنا باباً لبدعة ما أنزل الله بها من سلطان؟ ولماذا نجر على أنفسنا سخط العالم الإسلامي وتذمره بأي موجب؟…

ولم يعلق الأستاذ عبداللطيف الشويرف على هذين الخطابين وملابساتهما في تلك السنوات الغابرة إلا أنه حين قدمهما آثر رفيق دربه الراحل الشيخ محمود صبحي على نفسه في التحلي بالشجاعة والإقدام فيما يخص الخطابين وأفاض بالإشادة والثناء عليه قائلاً (.. كان وهو رئيس جمعية الدعوة الإسلامية يرسل بخطابات إلى معمر القذافي يرد فيها على فتواه الشرعية الخاطئة، ويفند أراءه في قضايا إسلامية حساسة، مخالفاً لما علم من الدين بالضرورة، أو مخترقاً إجماع المسلمين قديماً وحديثاً، مصححاً له أخطاءه بالمنقول والمعقول، وبالحجج العلمية الدامغة).

ويضيف فضيلة العلامة عبداللطيف الشويرف (كان الشيخ وأنا أعمل معه في جمعية الدعوة الإسلامية، يكلفني تحرير هذه الخطابات وغيرها من المكاتبات، وقد وجدتُ ضمن أوراقي القديمة مسودتين لخطابين من تلك الخطابات، أحببتُ أن ألحقهما بهذا الكتاب، مستبيحاً لنفسي هذا الحق، لأنني كاتب الخطابين بقلمي وصياغتي وأفكاري، غير مدعٍ في ذلك فضلاً، لأن المستحق لهذا الفضل هو الشيخ محمود صبحي الذي ذيل الخطابين باسمه وتوقيعه، وحمل على عاتقه في شجاعة مسؤوليتهما السياسية والأدبية، وقام بما يفرضه الله على العلماء ورثة الأنبياء من واجب أداء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والتواصي بالخير والحق، والتعاون على البر والتقوى).

إن كتاب (من حصاد العمر) الذي أصدره مؤخراً أستاذنا الكبير الشيخ عبداللطيف أحمد الشويرف، وهو يشكر عليه عظيم الشكر والتقدير، يضيفُ الكثير من المعلومات القيمة للمكتبة الوطنية، ويضع عديد المقالات ذات القضايا الفكرية والنقدية والدراسات الأدبية أمام المهتمين والشغوفين بالأدب والمطالعات كافة للتعرف على أوجه ومستوى التعاطي معها في العقود المنصرمة، وكذلك أمام المختصين للاستفادة منها في مجالاتهم والتعرض لها بما يتيسر لديهم من نقود وملاحظات وإضافات تبعث فيه حياة تتواصل عبر أجيال متعاقبة.

يونس شعبان الفنادي

fenadi@yahoo.com

صورة الكتاب: 
الناشر: 
دار الرواد
السنة: 
الطبعة الأولى 1438هـ / 2017 م